تناقضات أورتايلي حول اللاجئين- من لاجئ إلى مُطالب بالترحيل؟

أثارت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها المؤرخ التركي المرموق، البروفيسور إيلبير أورتايلي، بشأن قضية اللاجئين، عاصفة من الجدل والنقاش، وأعادت إلى الأذهان حقائق تاريخية هامة غالبًا ما تغيب عن الساحة في خضم الجدالات المحتدمة حول اللاجئين في تركيا.
يُعدّ أورتايلي قامة أكاديمية شامخة، فهو ليس فقط مُلمًّا بالعديد من اللغات، بل يتمتع أيضًا بقدرة استثنائية على تبسيط أعقد المعلومات التاريخية وتقديمها بأسلوب سلس وجذاب عبر مختلف وسائل الإعلام، من البرامج التلفزيونية إلى المؤتمرات والكتب التي تحظى بشعبية واسعة.
ما يميّزه بشكل خاص هو أسلوبه الفريد الذي يمنحه القدرة على إصدار أحكام قاطعة في المسائل التاريخية، نادرًا ما يجرؤ أحد على الاعتراض عليها. وبفضل ذاكرته الحديدية وثقافته العامة الواسعة، اكتسب نفوذًا يتجاوز بكثير نطاق تخصصه في التاريخ، ليطال مختلف المجالات.
تصريحاته الأخيرة حول قضية اللاجئين السوريين، التي أصبحت قضية الساعة في تركيا، أثارت استياءً واسعًا. ولم يكن سبب هذا الاستياء هو مضمون التصريحات في حد ذاته، إذ أن الكثيرين ممّن يحملون توجهات عنصرية قد أدلوا بتصريحات مماثلة. بل إن ما أثار الدهشة هو التناقض الصارخ بين هذه التصريحات ومواقفه السابقة. فقبل فترة وجيزة، كان أورتايلي قد صرّح بخلاف ما قاله الآن تمامًا. والمفارقة الأخرى هي أن أورتايلي نفسه ينحدر من عائلة لاجئة، ولكنه الآن يدعو إلى ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا.
لقد ترسّخ في أذهان المجتمع أن أورتايلي مرجع موثوق في التاريخ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يسخّر هذه المعرفة وهذا النفوذ لتعزيز مكانته الشخصية، أم أنه يفضّل أن يكون مجرد بوق يعكس آراء جهات أخرى؟
في مقابلة تلفزيونية على موقع يوتيوب، وعندما سُئل عن رأيه في اللاجئين السوريين، أجاب أورتايلي قائلًا: "أعتقد أن اللاجئين يجب أن يعودوا إلى ديارهم. لماذا أحوّل مجموعة عاجزة عن حماية وطنها إلى مواطنين؟ نحن لسنا في جنة عدن. هل سأضطر غدًا إلى إلحاق هؤلاء بالجيش؟ هل يمكنني ذلك؟".
قد تبدو هذه التصريحات مألوفة، فهي تشبه إلى حد كبير التصريحات التي يدلي بها العنصريون الآخرون. لكن اللافت للنظر هو أنه قبل عام واحد فقط، وفي برنامج تلفزيوني آخر، أكد أن اللاجئين السوريين والأفغان لم يتسببوا في أي ضرر للاقتصاد التركي، بل على العكس، وأن "تركيا بحاجة إلى اللاجئين لأننا مجتمع يتقدم في العمر، وسنحتاج إليهم لحماية أقلياتنا الثقافية حول العالم". وفي مناسبة أخرى، دافع بحماس عن حق المهاجرين الأفغان في الوجود في تركيا، مشيرًا إلى أن الزراعة ستنهار بدونهم.
هذا التضارب الجلي في وجهات نظره أثار تساؤلات عديدة حول الدوافع الكامنة وراء تصريحاته الأخيرة. ربما يكون أورتايلي قد سعى إلى مجاراة التيار المتصاعد من العداء والكراهية تجاه اللاجئين السوريين في الآونة الأخيرة. ولكن في هذه الحالة، فإن الشعور بالخذلان والإحباط يكون حتميًا عندما نرى شخصية مرموقة تتمتع بمكانة وقوة كهذه تستسلم لموجة شعبوية، بدلًا من أن تستخدم معرفتها وقدراتها لمواجهتها.
في الواقع، لم يكن أورتايلي يومًا شخصية جريئة أو مغامرة، بل لطالما سار في خط متوازٍ مع التوجهات السائدة، مما يجعله مؤرخًا تقليديًا. ومما يثير الأسف أن العديد من المؤرخين في تركيا لا يقدمون المعرفة الحقيقية التي يمتلكونها، ولا يرتقون إلى مستوى التوقعات المعلقة عليهم.
لقد رسخ المجتمع في مخيلته أن أورتايلي مرجع لا يشق له غبار في التاريخ، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: هل يستغل هذه المعرفة وهذا النفوذ لتعزيز سلطته الشخصية، أم أنه يفضل أن يكون مجرد ناطق رسمي باسم قوى أخرى؟ وبالنظر إلى أن الجهات التي يمثلها ليست بالضرورة الحكومة الحالية أو الدولة، فمن الواضح أن أورتايلي يسعى إلى لعب دور مختلف تمامًا.
من بين التصريحات التي أثارت أكبر قدر من الجدل قوله: "مجموعة غير قادرة على الدفاع عن وطنها". هذا التصريح استدعى استفسارًا حول ما إذا كان السوريون في تركيا قد تركوا ديارهم نتيجة احتلال أجنبي أو تدخل قوة خارجية. وعند الخوض في هذا الأمر، يجب التأكيد على أن الشعب السوري لم يغادر وطنه بسبب غزو من دولة أخرى. بل واجه السوريون اعتداءات وحشية، حيث دُمرت منازلهم وقُتل العديد منهم، بينما فرّ الباقون بأرواحهم هربًا من القصف.
ومع ذلك، فليس من الإنصاف القول إن السوريين فروا دون قتال أو مقاومة. فقد أبدوا مقاومة باسلة على مدى سنوات، وقدموا تضحيات جسامًا، وحاربوا ضد التهديدات التي فرضها تنظيم "الدولة" و"حزب العمال الكردستاني" (PKK).
لكن الأمر الأكثر غرابة في تصريحات أورتايلي هو تجاهله التام لحقيقة أنه نفسه قد وُلِدَ في مخيم للاجئين في عام 1947. كانت عائلته قد هربت من شبه جزيرة القرم عندما اقترب الجيش الأحمر من الأراضي التي كانت تحت سيطرة ألمانيا النازية، وانضمت إلى جموع المهاجرين الذين تم نقلهم إلى مخيمات مختلفة في ألمانيا. ثم انتقلوا إلى غراتس، ثم إلى إنسبروك، وأخيرًا إلى مخيم للاجئين في بغانز بألبيرشفيندي، حيث التقى والده كمال بوالدته شفيقة وتزوجا وأنجبا أورتايلي هناك. وبعد انتهاء الحرب، عندما عُرض على عائلته فرصة العودة إلى القرم، رفضت ذلك، واختارت اللجوء إلى تركيا باعتبارها ملاذًا آمنًا.
أورتايلي، الذي قدم إلى تركيا كلاجئ قبل 75 عامًا، يقف اليوم موقفًا معارضًا للاجئين. وكان قد صرح في السابق بأن "المشكلة في هذا البلد تكمن في أن الذين يأتون أولًا لا يستطيعون تقبل وجود من يأتون بعدهم". وعندما يتم فتح ملف "ترك الوطن والفرار" في سوريا، يجب طرح السؤال عمن ترك سوريا أولًا وسلّمها للاحتلال البريطاني دون مقاومة في عام 1918، وذلك بعد أن انسحب الجيش العثماني بسرعة وبشكل غير مبرر من بلاد الشام، تاركًا المنطقة بأكملها تحت رحمة المستعمرين البريطانيين. فالحقائق التي تُطمس في صفحات التاريخ ستنكشف حتمًا في نهاية المطاف.
من المؤكد أن أورتايلي، بصفته مؤرخًا، يدرك الكثير عن هذه الحقائق، لكنه، شأنه شأن العديد من المؤرخين الآخرين، يفضل عدم الخوض فيها. لا شك أن أورتايلي يمتلك رصيدًا هائلًا من المعرفة، لكن من الواضح أيضًا أنه يسيء استخدام هذه المعرفة والسلطة التي اكتسبها بفضل أسلوبه المتميز. فلو أنه نقل الحقائق بصدق وإخلاص، لكان قد قدم تفسيرًا مختلفًا تمامًا للتاريخ. لكنه لم يجرؤ على المخاطرة قط، ولم يكشف عن الحقائق التي يعرفها، بل انحاز إلى الأجندات التي تخدم مصالح من يستضيفونه. ولم يستخدم نفوذه المستمد من معرفته لتوعية أولئك الذين ينخرطون في خدمة أيديولوجياتهم الخاصة.
عائلة أورتايلي نفسها، على الرغم من أنها أتيحت لها فرصة العودة إلى وطنها، إلا أنها اختارت تركيا كملاذ آمن. ومع ذلك، فإن أورتايلي اليوم يطالب السوريين بالعودة إلى ديارهم، على الرغم من أن بلادهم لا تزال تعاني من انعدام الأمن والاستقرار. وهذا خير دليل على التناقض الصارخ الذي يعيشه معارضو اللاجئين في تركيا.